فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ}.
لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين بين الوحدانية أيضًا بالمثل بعد الدليل، ومعناه أن يكون له مملوك لا يكون شريكًا له في ماله ولا يكون له حرمة مثل حرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله تعالى حتى يعبدوا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
ينبغي أن يكون بين المثل والممثل به مشابهة ما، ثم إن كان بينهما مخالفة فقد يكون مؤكدًا لمعنى المثل وقد يكون موهنًا له وههنا وجه المشابهة معلوم، وأما المخالفة فموجودة أيضًا وهي مؤكدة وذلك من وجوه أحدها: قوله: {مّنْ أَنفُسكُمْ} يعني ضرب لكم مثلًا من أنفسكم مع حقارتها ونقصانها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمها وكمالها وقدرتها وثانيها: قوله: {ممَّا مَلَكَتْ أيمانكم} يعني عبدكم لكم عليهم ملك اليد وهو طارىء قابل للنقل والزوال، أما النقل فبالبيع وغيره والزوال بالعتق ومملوك الله لا خروج له من ملك الله بوجه من الوجوه، فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكًا لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه، بل هو في الحال مثلكم في الآدمية حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقتل وقطع وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة، فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه شريكًا له وثالثها: قوله: {مّن شُرَكَاء فيمَا رزقناكم} يعني الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو من الله ومن رزقه والذي من الله فهو في الحقيقة له فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك في مالكم من حيث الاسم، فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما له من حيث الحقيقة وقوله: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاء} أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء مما يملكه، لكن كل شيء فهو لله فما تدعون إلهيته لا يملك شيئًا أصلًا ولا مثقال ذرة من خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم منه، وأما قولكم هؤلاء شفعاؤنا فليس كذلك، لأن المملوك هل له عندكم حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة، فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوجوه وإلى هذا أشار بقوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخيفَتكُمْ أَنفُسَكُمْ}.
المسألة الثانية:
بهذا نفى جميع وجوه حسن العبادة عن الغير لأن الأغيار إذا لم يصلحوا للشركة فليس لهم ملك ولا ملك، فلا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم ولا يرتجى منهم منفعة لعدم ملكهم حتى يعبدوا لنفع وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد والعبد المملوك لا يقدر على شيء فلا تخافوهم كما تخافون أنفسكم، فكيف تخافونهم خوفًا أكثر من خوفكم بعضًا من بعض حتى تعبدوهم للخوف.
ثم قال تعالى: {كَذَلكَ نُفَصّلُ الأيات لقَوْمٍ يَعْقلُونَ} أي نبينها بالدلائل والبراهين القطعية والأمثلة والمحاكيات الإقناعية لقوم يعقلون، يعني لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.
{بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بغَيْر علْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ منْ نَاصرينَ (29)} أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم من غير علم وأثبتوا شركاء من غير دليل، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله: {فَمَن يَهْدى مَنْ أَضَلَّ الله} أي هؤلاء أضلهم الله فلا هادي لهم، فينبغي أن لا يحزنك قولهم، وههنا لطيفة وهي أن قوله: {فَمَن يَهْدى مَنْ أَضَلَّ الله} مقو لما تقدم وذلك لأنه لما قال لأن الله لا شريك له بوجه ما ثم قال تعالى بل المشركون يشركون من غير علم، يقال فيه أنت أثبت لهم تصرفًا على خلاف رضاه والسيد العزيز هو الذي لا يقدر عبده على تصرف يخالف رضاه، فقال: إن ذلك ليس باستقلاله بل بإرادة الله وما لهم من ناصرين، لما تركوا الله تركهم الله ومن أخذوه لا يغني عنهم شيئًا فلا ناصر لهم.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
ثم قال تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} أي إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين، وقوله: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ} أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى: {كُلُّ شيء هَالكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي ذاته بصفاته، وقوله: {حَنيفًا} أي مائلًا عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه، وهذا قريب من معنى قوله: {وَلاَ تَكُونُوا منَ المشركين} [الروم: 31] ثم قال الله تعالى: {فطرت الله} أي الزم فطرة الله وهي التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخذهم من ظهر آدم وسألهم {أَلَسْتَ برَبّكُمْ} [الأعراف: 172] فقالوا: بلى، وقوله تعالى: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} فيه وجوه، قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقيًا لا يسعد، وقيل: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون الله، لكن الإيمان الفطري غير كاف.
ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدًا مثل كون المملوك عبدًا لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله، وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلهًا فقال: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.
ثم قال تعالى: {ذلك الدين القيم} الذي لا عوج فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك هو الدين المستقيم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مّنْ أَنفُسكُمْ}.
اختلف في سبب ضرب الله لهم المثل على ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأن المشركين أشركوا به في العبادة غيره، قاله قتادة.
الثاني: لأنه كانت تلبية قريش في الجاهلية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا وهو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن جبير.
الثالث: لأنهم كانوا لا يورثون مواليهم فضرب الله هذا المثل، قاله السدي.
وتأويله: أنه لم يشارككم عبيدكم في أموالكم لأنكم مالكون لهم، فالله أوْلى ألا يشاركه أحد من خلقه في العبادة لأنه مالكهم وخالقهم.
{تَخَافُونَهُم كَخيفَتكُمْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تخافون أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون ذلك من شركائكم، قاله أبو مجلز.
الثاني: تخافون أن يرثوكم كما تخافون ورثتكم، قاله السدي.
الثالث: تخافون لائمتهم كما تخافون بعضكم بعضًا، قاله يحيى بن سلام.
قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قصدك.
الثاني: دينك، قاله الضحاك.
الثالث: عملك، قاله الكلبي.
{للدّين حَنيفًا} فيه ستة تأويلات:
أحدها: مسلمًا، وهذا قول الضحاك.
والثاني: مخلصًا، وهذا قول خصيف.
الثالث: متبعًا، قاله مجاهد.
الرابع: مستقيمًا، قاله محمد بن كعب.
الخامس: حاجًّا، قاله ابن عباس.
السادس: مؤمنًا بالرسل كلهم، قاله أبو قلابة.
{فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فيها تأويلان:
أحدهما: صنعة الله التي خلق الناس عليها، قاله الطبري.
الثاني: دين الله الذي فطر خلقه عليه، قاله ابن عباس والضحاك والكلبي يريد به الإسلام وقد روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فطْرة إبْرَاهيمَ السُّوَاكُ» ومن قول كعب بن مالك:
إن تقتولنا فدين الله فطرتنا ** والقتل في الحق عند الله تفضيل

{لاَ تَبْديلَ لخَلْق اللَّه} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: لا تبديل لدين الله، قاله مجاهد وقتادة.
الثاني: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن يخصي فحولها، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعكرمة.
الثالث: لا تبديل خالق غير الله فيخلق كخلق الله، لأنه خالق يخلق، وغيره مخلوق لا يخلق، وهو معنى قول ابن بحر.
ويحتمل رابعًا، لا يشقى من خلقه سعيدًا ولا يسعد من خلقه شقيًّا.
{ذَلكَ الدّينُ الْقَيّمُ} فيه تأويلان:
أحدهما: ذلك الحساب البين، قاله مقاتل بن حيان.
الثاني: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
{وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقًا معبودًا وإلهًا قديمًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم عندكم بجوانبكم، هذا تفسير ابن عباس والجماعة.
وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير، وقرأ الناس {كخيفتكم أنفسَكم} بنصب السين، وقرأ ابن أبي عبلة {أنفسُكم} بضمها، وقرأ الجمهور {نفصل} بالنون حملًا على {رزقناكم} وقرأ عباس عن أبي عمرو {يفصل} بالياء حملًا على {ضرب لكم مثلًا}.
{بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بغَيْر علْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ منْ نَاصرينَ (29)}.
الإضراب ب {بل} هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة، كأنه يقول: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصدًا لأمر دنياهم، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله، أي لا هادي لأهل هذه الحال، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، و{حنيفًا} معناه معتدلًا مائلًا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة، وقوله: {فطرةَ الله} نصب على المصدر، كقوله: {صبغة الله} [البقرة: 138] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم {فطرة الله} واختلف الناس في الفطرة ها هنا، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه قال: {فأقم وجهك للدين} الذي هو الحنيف وهو {فطرة الله} الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث، فذكر الأبوين: إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} يحتمل تأويلين: أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه، والآخران أن يكون قوله: {لا تبديل لخلق الله} إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون، وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها عكرمة، وقد روي عن ابن عباس {لا تبديل لخلق الله} معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله: {فطر الناس} على الخصوص أي المؤمنين، وقيل الفطرة هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسمًا من ظهره، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة؟ قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر: صدقت، و{القيم} بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ضَرَبَ لكم مَثَلًا}.
سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكُه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
ومعنى الآية: بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهًا، وذلك الشَّبه {من أنفُسكم} ثم بيَّنه فقال: {هل لكم ممَّا ملكت أيمانُكم} أي: من عبيدكم {من شركاءَ فيما رزقناكم} من المال والأهل والعبيد، أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم {فأنتم فيه سواءٌ} أي: أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ {تخافونهم كخيفتكم أنفُسكم} أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يَرثوكم كما يَرث بعضكم بعضًا؟ وقال غيره: تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟! فإذا لم ترضَوا ذلك لأنفسكم، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! {كذلك} أي: كما بيَّنَّا هذا المَثَل {نفصّل الآيات لقوم يَعْقلون} عن الله.
ثم بيَّن أنَّهم إنَّما اتَّبعوا الهوى في إشراكهم، فقال: {بل اتَّبع الذين ظلموا} أي: أشركوا بالله {أهواءهم بغير علْم فمن يَهدي مَن أضلَّ اللّهُ} وهذا يدل على أنهم إنما أشركوا باضلال الله إيَّاهم {وما لهم من ناصرين} أي: مانعين من عذاب الله.
قوله تعالى: {فأقم وجهك} قال مقاتل: أخلص دينك الإسلام {للدّين} أي: للتوحيد.
وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجَّهك الله إليها.
وقال غيره: سدّد عملك، والوجه: ما يُتَوجَّه إليه، وعمل الإنسان ودينه: ما يتوجَّه إليه لتسديده وإقامته.
قوله تعالى: {حنيفًا} قال الزجاج: {الحنيف} الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحَنَف في الرّجل، وهو ميلها إلى خارجها خلْقة، لا يقدر الأحنف أن يردَّ حَنَفه وقوله: {فطرةَ الله} منصوب، بمعنى: اتَّبع فطرةَ الله، لأن معنى {فأقم وجهك} اتَّبع الدّين القيّم، واتَّبع فطرة الله، أي: دين الله.
والفطرة: الخلْقة التي خَلَق اللّهُ عليها البشر.
وكذلك قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على الإيمان بالله.
وقال مجاهد في قوله: {فطرة الله التي فطر الناسَ عليها} قال: الإسلام، وكذلك قال قتادة.
والذي أشار إليه الزجاج أصح، وإليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله والمعرفة به، لا الإسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، والكل أقرُّوا حين قوله: {ألستُ بربّكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] ولستَ واجدًا أحدًا إلا وهو مُقرّ بأنَّ له صانعًا ومدبّرًا وإن عبد شيئًا دونه وسمَّاه بغير اسمه؛ فمعنى الحديث: إن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهوّد اليهودُ أبناءهم، أي يعلّمونهم ذلك، وليس الإقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب؛ وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإسلام، ما ورثه إلا المسلمون، ولا دفن إلا معهم؛ وإنما أراد بقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم من صُلْب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إقراره.
ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: إني خَلقتُ عبادي حنفاء» وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إلاَّ إلى حرف واحد، فأجابوه.
قوله تعالى: {لا تبديل لَخلْق الله} لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي؛ والتقدير: لا تبدّلوا خَلْق الله.
وفيه قولان:
أحدهما: أنه خصاء البهائم، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والثاني: دين الله، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين.
وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين.
قوله تعالى: {ذلك الدّينُ القيّم} يعني التوحيد المستقيم {ولكنَّ أكثر الناس} يعني كفار مكة {لا يَعْلَمون} توحيد الله. اهـ.